الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى: {سَبَقُواْ} أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضًا مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط، وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضًا وقيل: هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا، وهي مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، والتقديرُ ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا ويعضُده قراءة من قرأ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا} وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ} الآية، قاله الزجاج وقرئ بالتاء على خطاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرئ ولا تحسبن الذين بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزًا عن إدراكهم، تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئنافِ، وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام التعليلِ، وقيل: الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ، وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه، وقيل: نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرئ لا يعجزونِ بكسر النون ولا يعجزونِّ بالتشديد. اهـ..قال الألوسي: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ}بياء الغيبة وهي قراءة حفص وابن عامر وأبي جعفر وحمزة، وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم أنها غير نيرة، فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها إلا ولأن أيضًا، وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة، وقال المحققون: إنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا، أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم.والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ، والاقتصار على دفع هذا التوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرًا مستترًا، والحذف لا يخطر بالبال كما توهم، أي لا يحسبن هو أي أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد، وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا، وحكى عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وان سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين، وأيد بقراءة ابن مسعود {أَنَّهُمْ سَبَقُواْ}.واعترضه أبو البقاء وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه.وقرأ من عدا من ذكر {تَحْسَبَنَّ} بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من له حظ في الخطاب {والذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ} مفعولاه ولا كلام في ذلك.وقرأ الأعمش {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين} بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزًا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الاستئناف.وقرأ ابن عامر {أَنَّهُمْ} بفتح الهمزة وهو تعليل أيضًا بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله.وقيل: الفعل واقع عليه، و{لا} صلة ويؤيده أنه قرئ بحذفها و{سَبَقُواْ} حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين.وضعف بأن {لا} لا تكون صلة في موضع يجوز أن لا تكون كذلك وبأن المعهود كما قال أبو البقاء في المفعول الثاني لحسب في مثل ذلك أن تكون أن فيه مكسورة، وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى أن يحذر من عاقبة النبذ لما أنه ايقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين، وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما يشير إليه.وذكر الجبائي أن {لاَ يُعْجِزُونَ} على معنى لا يعجزونك على أنه خطاب أيضًا للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن عدم الاعجاز كيفما قدر المفعول اشارة إلى أنه سبحانه سيمكن منهم في الدنيا، فما روي عن الحسن أن المعنى لا يفوتون الله تعالى حتى لا يبعثهم في الآخرة غريب منه ان صح.وادعى الخازن أن المعنى على العموم على معنى لا يعجزون الله تعالى مطلقًا اما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار.وذكر أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه.وهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيمن أفلت من فل المشركين، وروي ذلك عن الزهري.وقرئ {يُعْجِزُونَ} بالتشديد.وقرأ ابن محيصن {يُعْجِزُونَ} بكسر النون بتقدير يعجزونني فحذفت إحدى النونين للتخفيف والياء اكتفاء بالكسرة، ومثله كثير في الكتاب. اهـ..قال ابن عاشور: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما بدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة، وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر، وطمأنة له وللمسلمين بأنّهم سيدالون منهم، ويأتون على بقيتهم، وتهديد للعدوّ بأنّ الله سيمكّن منهم المسلمين.والسبق مستعار للنجاة ممّن يَطلب، والتفلّت من سلطته.شبه المتخلّص من طالبه بالسابق كقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت: 4] وقال بعض بني فقعس:أي كأنّك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك، ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى: {إنهم لا يعجزون}، أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن، فما هي إلاّ نجاة في وقت قليل، فهم لا يعجزون الله، أو لا يعجزون المسلمين، أي لا يُصِيِّرون من أفلِتوا منه عاجزًا عن نوالهم، كقول إياس بن قبيصة الطائي: وحذف مفعول {يعجزون} لظهور المقصود.وقرأ الجمهور {ولا تحسبن} بالتاء الفوقية.وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص وأبو جعفر {ولا تحسبن} بالياء التحتية وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب، فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحنًا، وهذا اجتراء منه على أولئك الايمة وصحة روايتهم، واحتجّ لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدلّ عليه قوله: {إنهم لا يعجزون} أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، واحتج لها الزجاج بتقدير (أنَّ) قبل {سبقوا} فيكون المصدر سادًّا مسدّ المفعولين، وقيل: حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه.والتقدير: ولا يحسبنّ حاسب.وقوله: {إنهم لا يعجزون} قرأه الجمهور بكسر همزة {إنهم} استئناف بياني جوابًا عن سؤال تثيره جملة: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} وقرأ ابن عامر {أنهم} بفتح همزة (أنّ) على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي، أي لأنّهم لا يعجزون، قال في الكشّاف: كلّ واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاّ أنّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح. اهـ. .قال الشعراوي: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار في حرب، قُتل فريق من الكفار، وأُسر فريق آخر منهم، وفر فريق ثالث، وأما الذين قتلوا والذين أسروا فقد أخذوا جزاءهم، والذين فروا نجوا من القتل ومن الأسر، فكأنهم سبقوا فلم يلحق بهم المسلمون الذين أرادوا أن يقتلوهم أو يأسروهم. والسبق أن يوجد شيء يريد أن يلحق بشيء أمامه فيسبقه؛ ولا يستطيع اللحاق به. فكأن الكفار عندما فروا سبقوا المسلمين الذين لو لحقوا بهم لقتلوهم أو أسروهم.الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا هو ظاهر ما حدث، ولكن الحقيقة التي يريدنا الله عز وجل أن نفهمها هي أن هؤلاء الكفار الذين فروا وسبقوا، ولم تلحقهم أيدي المسلمين، هؤلاء لا يعجزون الله تعالى ولا يخرجون عن قدرته سبحانه وتعالى وسوف يأتيهم العذاب في وقت لاحق، إما بانقضاء الأجل وإما في معركة ثانية.وعادة نجد أن كلًا من السابق والمسبوق يستخدم أقصى قوته، الأول ليفر والثاني ليلحق به. ولذلك عندما تراهما فقد تتعجب من القوة التي يجري كل منهما بها، وهذه هي الطبيعة الإنسانية، فساعة الأحداث العادية يكون للإنسان قوة وقدرة. وساعة الأحداث المفاجئة تكون له أي للإنسان ملكات أخرى. فإذا غرقت سفينة في البحر مثلًا وتعلق واحد من ركابها بقطعة خشب من حطام السفينة، تجده يسبح لفترة طويلة دون أن يشعر بالتعب. فإذا وصل إلى الشاطيء خارت قواه.ولقد عرفنا سر ذلك عندما اكتشف علم وظائف الأعضاء أن الإنسان عنده غدة فوق الكلي هي الغدة الكظرية، إذا وقع في مأزق مفاجيء تفرز مادة الإدرينالين وهذه مادة يمكن أن تعطيه عشرة أضعاف قوته، ولكن إذا زال الخطر تتوقف الغدة عن إفراز هذه المادة إلا بالنسبة التي يحتاجها الجسم، ولذلك تجد الإنسان الذي يصارع الموج في البحر تمده هذه الغدة بالوقود، فإذا وصل إلى الشاطيء توقفت الغدة عن الإفراز الزائد المناسب للخطر فتخور قواه وربما يظل ثلاثة أيام نائمًا من التعب.وهناك قصة خيالية رمزية تروى عن صائد أرسل كلبه يجري وراء غزال ليأتيه به، والكلب يجري يريد اللحاق بالغزال، والغزال يجري طلبًا للنجاة، وفجأة التفت الغزال إلى الكلب وقال له: لن تلحقني؛ لأني أجري لحساب نفسي وأنت تجري لحساب صاحبك.فمن يفعل شيئًا لينجو بنفسه يكون قويًا. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59].أي إنهم في قبضة المشيئة لا يخرجون عن قدرة الله الذي سيحضرهم ويحاسبهم.وبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عمن حارب، ومن عاهد وغدر، ومن فر وسبق، ومن يريد أن يلحق به، أراد أن ينبهنا إلى حقيقة هامة وهي ألا نقصر في إعدادنا للقوة التي تعيننا على ملاقاة الأعداء وقت الحرب أو حتى تأتينا الحرب؛ لأننا قد نفاجأ بها فلا نستطيع أن نستعد، ولذلك لا يجب أن يقتصر استعدادنا للقتال إلى أن تأتي ساعة القتال ذاتها، لا، بل يجب أن نستعد سلمًا وحربًا. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} الآية.قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم {يَحْسبنَّ} بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ} [النور: 57] كذلك، خلا حفصًا، والباقون بتاء الخطابِ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران، ولابد من التنبيه هنا على ما تقدَّم، فمنها، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق، تقديره: ولا يحسبنَّ هو أي: قبيل المؤمنين، أو الرسول، أو حاسب.أو يكون الضمر عائدًا على: {مَنْ خَلفهُمْ}.وعلى هذه الأقوالِ، فيجوزُ أن يكون {الذينَ كفرُوا} مفعولًا أول و{سَبَقُوا} جملة في محل نصب مفعولًا ثانيًا.وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى {الذينَ كفرُوا} ثم اختلف هؤلاء في المفعولين، فقال قوم: الأول محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا، فهَم مفعول أول، و{سَبَقُوا} في محل الثاني: أو يكون التقدير: لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا.وهو في المعنى كالذي قبله.وقال قومٌ: بل أنْ الموصولة محذوفة، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، والتقدير: ولا سحبن الذين كفروا أن سبقُوا، فحذفت أنْ الموصولة وبقيت صلتها، كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64].
|